هذا هو التنوير
من أكثر المصطلحات ترددا في ساحة الفكر والثقافة مصطلح «التنوير» وهو لفظ لغوي قبل أن يتحول إلى مصطلح فكري، والدلالة المعجمية لهذا اللفظ مستلة من الصورة الذهنية للنور الذي هو ضد الظلام، وحين يسلط النور على الظلام فإنه يبدده، واستخدام الفعل «أنار» ومشتقاته في التداول الفكري والثقافي، ومعه مصدره «تنوير» من باب التوظيف المجازي ونقل الدلالة من بعدها الحسي إلى البعد المعنوي.
وإذا تعمقنا قليلا، نجد أن النور مرتبط بالحقيقة والبصيرة، كما أن الظلام مرتبط بالخرافة والضلال، ومن هنا يقرُّ في الأذهان أن التنوير الحقيقي في عالم الفكر والثقافة، هو ما يكشف الزيف والوهم ويثبت الصدق والحقيقة.
لقد درج كثير من الكتاب على ربط «التنوير» بالهزات التي مرت بها أوروبا في القرن الثامن عشر، وبخاصة الثورة الفرنسية التي كانت في أصلها احتجاجا على تعسف الكنيسة وانغماسها في الخرافة والتضليل واستغلال حب الناس للدين، فأقحمتهم في مسالك موحشة من الاستعباد والقهر وسلب الأموال وادعاء فعل المستحيلات إلى درجة الزعم بغفران الذنوب، نيابة عن الله –تعالى- وتحرير صكوك الغفران.
وكان كل ذلك يقترف مقابل المال وتسليم الإرادة إلى سلطة الكنيسة بأذرعها الأخطبوطية، التي اتخذت من الدين قيدا وأداة سيطرة، وهذا على الرغم من أن الدين في أصله تحرير المخلوقين من هيمنة بعضهم على بعض وربطهم بالخالق -سبحانه وتعالى- المتفرد بالخلق وتدبير الكون، وهو الذي أرسل الرسل والأنبياء لهداية الناس إلى عبادته وإحلال العدل والسلام في الأرض.
إن الثورة الفرنسية قد استهدفت خرافات الكنيسة، باعتبارها صادرة من المؤسسة الدينية المنحرفة التي كانت تدعمها السلطة السياسية آنذاك، وهو ما حدا بالثوار إلى رفع الشعار الشرس «اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس» في إشارة إلى السخط على الواقع بكل أبعاده.
وقد كان ذلك نقطة الفراق بين الناس والمؤسستين الدينية والسياسية اللتين تهاوتا، وحلت محلهما قيم العلمانية والجمهورية التي تنامت حتى أصبحت سدا حال بين الناس والدين، واعتبر ذلك منطلق ما يسمى «التنوير»
ولئن كان ما حدث في فرنسا وأوروبا دافعا إلى السخط على الظلم والخرافة، فإن اصطفاف بعض المستلَبين من العرب والمسلمين مع الفرنسيين والأوروبيين في ثورتهم ضد المؤسستين الدينية والسياسية في البلدان الإسلامية، يعد أمرا غريبا، ذلك أنه لا يمكن مساواة الحالتين لأن الإسلام دين ارتضاه الله للبشر بوحي قرآني أنزله على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وقد ضبطه –سبحانه- بضوابط صارمة في العقيدة والشريعة والمعاملات، ولا وجود فيه للخرافة والاستغلال. كما أنه لا يخدشه ما يصدر عن بعض المسلمين من سوء التطبيق، فهو دين محفوظ بوعد الله القاطع في القرآن الكريم والمؤكد في السنة النبوية الشريفة.
وقد أحكم العلماء والفقهاء والمفسرون والمحدثون المسلمون، استنباط ذلك وتقييده في كتبهم القيمة التي أصبحت عماد التشريع العالمي.
وحينما ابتعث الله خاتم رسله محمدا -صلى الله عليه وسلم- كان العالم غارقا في الشرك والوثنية، باستثناء بؤر صغيرة كانت على التوحيد من الحنفاء والرهبان النصارى، وثلة من اليهود الذين كانوا يجدون ذكر بعثة الرسول محمد وصفاته في كتب الله النقية من التحريف، وكانوا يؤمنون بالله الواحد الأحد «الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» وبهذا جاء رسول الإسلام وسائر رسل الله -عليهم الصلاة والسلام- وهم دعاة التنوير الحقيقيون.
وهؤلاء الأنبياء والرسل صالحون مصلحون، وقد كانت رسالتهم التنويرية قائمة على الإيمان والتوحيد والعدل ونبذ الظلم وإعلاء قيم الحق والخير والجمال، وذلك ما نص عليه قول الله –تعالى- في محكم التنزيل «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» سورة البقرة: الآية 257.
إن هذا المفهوم القرآني للتنوير هو المفهوم السامي للتنوير، وهو مفهوم العقلاء الأسوياء ومطلبهم.