بانوراما
لم يعد مفهوم الأمن القومي منحصرا في الجوانب الاستخبارية والأمنية التقليدية، بل أصبح متشعبا ومتعلقا بجوانب كثيرة، تتعلق بالفكر والفن والأدب والثقافة والتعليم والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والاقتصاد والغذاء والدواء والماء والعلاقات الدولية والعمل الخيري، كما هو في الأمن العام.
والدول الطموحة لا تغفل شيئا من ذلك عند التخطيط لحماية أمنها القومي، بل توليه كل الاهتمام والمتابعة، لأنها تعلم أنها في منافسة شرسة مع المنافسين المتطلعين لبسط النفوذ واستقطاب الاهتمام.
ولقد كنت يوما أتجول في عاصمة دولة عربية أفريقية برفقة صديق يعمل ملحقا هناك، ولفتت انتباهي مبانٍ أنيقة البنيان مرموقة المواقع، وبجوارها ما يظهر أنها دور عبادة فخمة بقبب ومنارات باهرة الألوان لامعة الفسيفساء، وحين سألت رفيقي عنها، قال لي: هذه مراكز تدريب تقنية متكاملة التجهيزات، يقوم عليها نخبة من خبراء بلد بعيد جغرافيا عن هذا البلد العربي الأفريقي المسلم، وتديرها السفارة الفلانية في هذا البلد.
عند ذلك لمع في ذهني سؤال فضولي هو: هل يعقل أن تسبق دولة غريبة معلومة التوجه والمقاصد، دول جامعة الدول العربية، إلى هذه الدولة الأفريقية العربية المسلمة المهمة باستقطاب شبابها ونسائها من باب التدريب المهني والتقني، الذي يهدف بالتأكيد إلى تهيئة موطئ قدم لتلك الدولة ذات المشروع المؤدلج المعلن؟
إن فقه الواقع لم يعد مجرد ضرورة فكرية في عصرنا الحاضر، بل هو ضرورة قومية وأمنية ملحة، وإهمال هذا النوع المهم من أنواع الفقه يؤثر سلبا على مستقبل الأوطان والتكتلات القومية والدينية.
ولقد لاحظت استمرار وجود روابط ودوائر ووزارات في بعض الدول لتقوية العلاقات مع الدول الصديقة لها وتعزيز انتمائها إليها، وإن كانت علاقتها بها علاقة استعمارية مثل رابطتي الكومنولث البريطانية والفرانكفونية الفرنسية، لأن مجرد وجود هذه الهياكل يدل على وضوح الرؤية لديها وامتداد هذه الرؤية إلى آفاق رحبة واسعة.
ومن الجيد أن تكون للدول المحورية المهمة في العالم الحديث، مثل هذه الرؤية البانورامية الاستراتيجية.
أما التقوقع والانكفاء على الذات فلا يليق بمن يريد المزاحمة واقتناص الفرص وخدمة أهدافه الكبيرة واستقطاب الأصدقاء ومساعدتهم، بل حمايتهم من الطامعين الطامحين مهما كانت درجة الرضا عنهم والاتفاق معهم.
وإن طرح هذا الموضوع المهم والتنبيه إليه مسؤولية ذوي الفكر النير والتخطيط الراشد والمشورة الصادقة، ممن تبرأ الذمة بالاستماع إليهم وتأمُّل أفكارهم.
حفظك الله ولا فوض فوووك