“أتمتةُ” الحياة
كانت الصور حتى زمن ليس ببعيد تمر برحلة وجدانية من عين المصور ليد مسؤول التحميض في الاستوديو؛ الذي كان في الأغلب يعلق صورًا دعائية بألوان فاقعة تدل على أن عهد الأبيض والأسود انتهى.
ثمة قلقٌ يساورنا منذ لحظة استخراج الفيلم من قلب الكاميرا خشية الاحتراق، إلى ولوجه غرفة التحميض ليبيت زمنًا يتراوح بين ثلاثة أيام إلى أسبوع، مدة كانت كافية لأن نحلم بأشكالنا في الصور ليلا، ثم نقوم بِعدّ الصور المطبوعة ومقارنتها بإطارات «النيجاتيف» لنتأكد أن عدد المطبوع مطابق لعدد المحمض.
من كان يظن أن الوقت الفاصل ذاك، حفر تشكلات في وعينا وطور مداركنا دون دروس في البرمجة العصبية ولا دورات في قانون الجذب وعلوم الطاقة، وحتى في فهمنا للأشياء التي تأتي دون انتظار، بل وفي مدى تقبلنا وتكيفنا للقفزات الخارقة من حولنا، فالوقت الذي كنا نحسبه بقلق من فقد ولو صورة واحدة أثناء رحلة تحميض «نيجاتيف» حفلة عيد ميلاد أو طلعة بر، أسس لقيم عظيمة ليس أولها الصبر ولا آخرها الرضا.
تخيل أن جهاز جوالك مشبوك إلى «قبس» الكهرباء كالمعتاد، قادمة عبر منافذ وممرات متشابكة خلف الجدران، يهب فاصلاً نفسه من «القبس» ويقفز إلى البقعة التي تجلس فيها، بمجرد أن التقط صوتك مناديا عليه؛ ويضيء لك بإضاءة خافتة من اللون المفضل لديك، لينبهك أنه قد استعد لإطاعة أمرك بمجرد ابتسامتك له.
تخيل ثلاجتك توبّخك بأشد مفردات اللوم لأنك نسيت طبق سلطة فاسد منذ « … » الماضي، أو لتذكرك بالأضرار الصحية للمشروبات الغازية التي تملأ بطنها، تخيّل لو اكتشفت بعد عدة أيام أنك لم تضطر للحركة مطلقاً خلال أسبوع كامل، إذ بالهمس للأريكة لا تتحول إلى سرير فحسب، بل تنكمش دون دهسك لتطير محلّقة إلى حيث تريدها في أرجاء البيت.
الإنسانية تتجه لحتفها بالإذعان لما هي في ظاهرها اختراعات تسهل الحياة؛ يدّعي أهل الصحة والحياة الطويلة أنه تمت إضافة المقعد كأحد العوامل المدمرة للصحة على المدى البعيد، جنباً إلى جنب التدخين والسمنة، ويقصدون الجلوس المقيم، أي الإذعان! ومصطلح الأتمتة عند اللغويين المتجددين يعني الإشارة إلى الآلات ذاتية التشغيل، والتي ستعلمنا نحيا بإذعان.
تلفتني مؤتمرات «إنترنت» الأشياء وحوكمة العالم، واحتفاؤنا بالأشياء في تخليها عن معانيها، أرجو أن يدرك الإنسان أين ومتى يجب أن يضع الحد، حد الحرمان، حد المتعة، حدًا للهوس العلمي والتقني، هل عليه أن يروح للهوة لأنه يريد أن يكتشف مشاعر السقوط!.
الغريب أننا لم نحول الحب إلى شيء يمكنه الكلام، ولم نطوّع الأصدقاء لقبولنا كما نحن، ولم نحرز تقدمًا يذكر على صعيد معالجة الأخطاء النفسية التي تنعكس على تعاملاتنا مع الآخرين.
رأي: رحاب أبو زيد